Skip to main content
مبادرات التعليم الشعبي في غزة: تجارب المعلمين وتحدياتهم
Author
نادر وهبه
Publication Year
Paper's Language
العربية
Number of pages
12

تستمر حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ويزداد عدد الشهداء يومياً، معظمهم من الأطفال والنساء. وقد أمعنت إسرائيل في تدمير البنية التحتية في القطاعات كافة، وتحديداً قطاع التعليم. وقد بدأت حرب الإبادة هذه منذ نشوء دولة الاحتلال، إذ أدرجت إسرائيل في أعلى سلم أولوياتها هجمة ممنهجة على التعليم الفلسطيني في إطار "الإبادة المعرفية".[1] 

وفي المقابل، يُعتبر "التعليم الشعبي" في الانتفاضة الأولى، في نهاية سنة 1987، إحدى أدوات المقاومة التي اتخذها الفلسطينيون في مواجهة الإبادة المعرفية، المتمثلة في إغلاقات سلطات الاحتلال الإسرائيلي المدارس والجامعات لفترات طويلة (اليعقوبي، 2021).[2]  وتقول ياميلا حسين (Hussein, 2005)[3]  إن التعليم الشعبي أفقد إسرائيل السيطرة على التعليم، واسترجع خلاله الفلسطينيون ملكية التعليم، "فهم يقررون معاً ماذا يتعلمون، وكيف."

هذا تماماً ما يحدث الآن في غزة؛ فمع قرار إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر القضاء على ركائز التعليم في غزة وهدم المدارس والجامعات، قرر شعبنا في غزة الاستمرار في التعليم، وبدأ المعلمون يطورون مبادرات تعليمية في مناطق النزوح تتخذ الطابع الشعبي. ويمكن سماع الأطفال وهم يقرأون ويغنون ويلعبون داخل "خيم التعلم" المقامة وسط المناطق المزدحمة وتحت أصوات الزنانات التي أصبحت جزءاً من المشهد الصوتي، فتسمعهم يغنون الأغاني الشعبية والوطنية تارة، وتارة أُخرى يتعلمون الموسيقى والدبكة، ويسردون القصص الشعبية والروايات الفلسطينية، ويلونون العلم الفلسطيني، ويعبّرون عن معاناتهم وآلامهم بالرسم على جدران الخيمة التي تؤويهم، فالجميع حاضر بمعاناته وذكرياته وتاريخه. فيقرر الأطفال والمعلمون "الناشطون" معاً ماذا ومتى وكيف يتعلمون، مفوتين الفرصة على الاحتلال والدول الاستعمارية للسيطرة على التعليم من جديد.

ويوضح المعلمون والناشطون المبادرون عن طريق اللقاءات والمقابلات معهم في الفترة الأولى من نزوحهم إلى رفح[4]  أن الانخراط في مبادرات شعبية يُعتبر جزءاً من التعافي والدعم النفسي لهم. فعلى سبيل المثال، تتحدث لبنى أبو عودة، وهي معلمة نازحة من خان يونس، عن تلك الأيام المروعة التي عاشتها خلال الحصار والقصف المتواصل على حيها، والذي أدى إلى نزوحها إلى رفح، وتقول: "جمعت كل ما اعتبرته مهماً ووضعته في حقيبة كي أكون جاهزة للإخلاء في أي لحظة، لكن في لحظة قصف متواصل، قررت الهروب، وتركت الحقيبة ورائي وأنا أتسلق من النافذة كي أنقذ حياتي." وفي رفح، فتحت لبنى خيمتها المتواضعة لاستقبال ضحكات الأطفال وطاقتهم، ودعتهم إلى التجمع ولعب الألعاب الخيالية وخبز الحلويات البسيطة وإعداد وجبات الطعام. ومع انتشار الخبر، بدأ الأطفال يقتربون بفضول وإثارة، وكانت تصف مدى صعوبة إيجاد موارد للأطفال بسبب الحصار وإغلاق جميع المعابر، وتقول: "تمكنت من جمع القصص القديمة المعروضة على الأكشاك المنتشرة حول الخيام، والتي بالمناسبة كانت الأرخص بين الأشياء الأُخرى"، وأضافت: "كنت متعبة ومكسورة نفسياً، لكن بعد أن عملت مع الأطفال، بدأت أستعيد عافيتي وحيويتي."

ويتحدث محمد الخضري عن مبادرته "التعلم عن طريق اللعب" قائلاً: "هناك رغبة قوية لدى الأطفال في العودة إلى متعة القراءة والكتابة. إن قراءة القصص تمثل تحولاً كبيراً بالنسبة إليهم." ويروي تجربته المروعة من تحت الأنقاض بعد تسع ساعات من قصف منزله قائلاً: "لقد مُنحت حياة جديدة، وشعرت بموجة عارمة من الطاقة والتصميم على مواصلة عملي مع الأطفال." كما تتحدث المبادِرة راوية حماد، وهي معلمة لغة عربية من عبسان، والتي نزحت أولاً إلى خان يونس ثم إلى رفح، عن مبادرتها قائلة: "بعد الكثير من المتاعب ومناشدات لا حصر لها، حصلت أخيراً على خيمة تؤويني وتؤوي مبادرتي." وتتمحور مبادرتها حول مكتبة إلكترونية مبتكرة قامت بتطويرها وتحميل مجموعة متنوعة من القصص عليها. وتوضح راوية: "لقد حصلت على هذه القصص من أصدقاء من دول عديدة، وأقوم بتحميلها لضمان بقائها في متناول الجميع"، وتضيف: "بدأت قراءة هذه القصص للأطفال، وشجعتهم على تنزيلها على هواتف والديهم المحمولة كي يتمكنوا من القراءة في مناطق نزوحهم، ثم يعودون إلى مناقشتها في المرة القادمة." وقامت راوية بجمع الأطفال من الخيام المحيطة، وبسبب ضعف إشارة الإنترنت، غالباً ما كانت تجد نفسها تجلس مع الأطفال في الشارع المقابل، وهو المكان الوحيد الذي كانت فيه إشارة شبكة الاتصال والإنترنت قوية بما فيه الكفاية.

وتتحدث المعلمة فداء أبو فول، صاحبة مبادرة تعلم من تحت الركام في خان يونس، عن الدعم النفسي الذي شعرت به عبر تنفيذها هذه المبادرة مع الأطفال قائلة: "كنت أعاني جرّاء انهيار نفسي بسبب النزوح المتكرر وتدمير منزلي في مخيم الشاطئ، لكن منذ تنفيذ المبادرة مع الأطفال، بدأت أتعافى معهم وأتنشط وكأني طفلة مثلثهم"، مضيفة أن المبادرة أعطتها انتعاشاً وسط الحر الشديد في خيمتها التي يتجمع فيها أطفال كما لو كانت "فرناً" على حد وصفها.

أمّا عن وضع الأطفال في هذه المبادرات، فيتحدث المبادرون في قصصهم وتأملاتهم اليومية[5]  عن حالات نفسية وصدمات تحتاج إلى تدخل طويل الأمد، وبعض هذه الحالات يحتاج إلى علاج نفسي من جانب اختصاصيين بمجال الدعم النفسي العلاجي. ويعتبر المبادرون أن بعض النشاطات المقدمة عبر هذه المبادرات يمكن أن ترفه عن الأطفال بعض الشيء، حتى ولو لفترة قصيرة طالما أنهم متواجدون في مراكز أو خيام المبادرات. وتتحدث حياة الخروب، صاحبة مبادرة "حياة بين يدي الحياة" التعليمية في خان يونس، عن الطفل دانيال الذي يعاني جرّاء عدم القدرة على الكلام نتيجة الصدمة التي مر بها بعد قصف منزله، الأمر الذي أدى إلى استشهاد والديه. وتضيف: "أخيراً استطاع التحدث إلى زملائه هبة ونصر وزينة في حوار تفريغ، فتبين لي أن أحد والديهم أو كلاهما استشهد أيضاً."

كما تتحدث المبادِرة روان بكر عن خجل الطفلة مريم التي أُصيبت في قدمها وجبينها من المشاركة في الغناء والرقص، فتقول: "أخبرتها أن تستريح في خيمتها إذا كان المجيء إلى المبادرة فيه مشقة لها، فأجابتني: 'الوقت الوحيد الذي أشعر فيه بأنني بخير ولا أفكر في إصابتي هو الوقت الذي أكون فيه هنا أرسم وألون‘."

ويتحدث المبادرون أيضاً عن اهتمام الأطفال بأولويات أُخرى تعيق مشاركتهم في المبادرات، وأهمها انشغال الأطفال في البحث عن مصدر رزق لعائلتهم، فيتحدث المعلم عمر حمد، أحد المعلمين المبادرين في خان يونس، عن الطفل خالد الانطوائي، الذي كان يراقب من بعيد، ولا يتحدث إلى أحد. وقد استشهد والده في الحرب، فكان دائماً يفكر في وقت النشاطات في "كيف سيوفر مصدر دخل لأسرته؟"، لكنه في الوقت نفسه يرغب في الاستمرار وحضور النشاطات. ويقول عمر: "أصبح يقود بعض النشاطات مع الأطفال، وكوّن علاقات معهم، ولاحظت الأم عليه هذا التغير الإيجابي في نفسيته، فأصرت على أن يكمل النشاطات مع الأطفال ويؤجل مصدر الرزق إلى ما بعد انتهاء المبادرة."

وفي المقابل، يتحدث المبادرون عن قصص كثيرة في اكتشاف مواهب الأطفال بسبب المساحات الآمنة والحرة التي يوفرها لهم المبادرون. وفي هذا السياق، يتحدث المبادر بلال شبير، صاحب مبادرة "Feel My Voice" في دير البلح، عن موهبة الطالبة رهف في الرسم، وهو الآن يعمل مع فنانين يجاورونه في المبادرة على تنمية مواهب كهذه، ويقول: "تطمح رهف في نشر رسوماتها في مواقع عالمية لكي يتعرف العالم على واقع غزة عبر هذه الرسومات."

وتستمر هذه المبادرات التعليمية حتى يومنا هذا، فيأخذ الكثير منها عنواناً جامعاً؛ "مستمرون وهذا على الرغم من توقف كثير منها بسبب القصف والتوغل في مناطق نزوحهم من دون سابق إنذار، واضطرار الأطفال والأهالي والمبادرين إلى النزوح إلى مناطق جديدة يعتبرونها، بحسب تقديراتهم، أكثر أمناً. ويعمل المبادرون مع أطفال فقدوا ذويهم، أو أصيبوا في الحرب، أو يعانون جرّاء صدمات نفسية كبيرة. وقد بدأت المؤسسات المحلية الاهتمام بهذه المبادرات، وتقديم مساعدات عينية ومالية إليها من أجل زرع بذور الأمل والصمود عبر التعليم. وتختلف مضامين هذه المبادرات، فبعضها يركز على القصة، والفنون، والمسرح، والدراما، والموسيقى، والغناء، باعتبارها جزءاً من التفريغ النفسي الاجتماعي في ظل الحرب. وهناك الكثير من المبادرات تركز أيضاً على تقديم مهارات القراءة والكتابة والرياضيات واللغة الإنكليزية إلى الأطفال المتجمعين بأعمار متعددة في المبادرة، في ظاهرة فريدة يساعد فيها الأطفال الكبار مَن هم أصغر منهم سناً، ويستندون بصورة أساسية إلى كراسات وقصص مواد تعليمية من مواقع التواصل الاجتماعي وما تبقّى من الكتب الدراسية. ويشارك في هذه المبادرات الأمهات والآباء والأقارب المتواجدون في مكان المبادرة، ويقدمون مستلزمات أساسية: منها السجاد، والشوادر، وما تبقّى من مقاعد خشبية، كما يشاركون في تنفيذ بعض النشاطات مع المبادرين.

أمّا المؤسسات المحلية والدولية التي ما زالت ناشطة في القطاع، فتقدم بدورها برامج الدعم النفسي الاجتماعي، وتوفر الطعام، وتساند المبادرات مادياً، وتوفر مضامين تخصصية للمبادرات، كالموسيقى، والفن، وغيرها.

إن الجميع ينتظر لحظة توقف الحرب على غزة، ويترقب اليوم الأول لما بعد الحرب، بعد أن فضلت المؤسسات الرسمية المتمثلة في وزارة التربية والأونروا التدخل في التعليم بعد انتهاء الحرب، وها هي الآن تدرك أهمية التعليم الذي يحدث في هذه المبادرات. فعلى سبيل المثال، أصدرت وكالة الغوث الدولية مؤخراً بياناً[6]  تعلن فيه بدء تنفيذ نشاطات تعليمية "غير رسمية" بالتدريج، بدءاً من شهر آب/أغسطس الحالي، وتتمركز بداية في مراكز الإيواء الحالية في مدارس الأونروا، وتنقسم إلى نشاطات صباحية ومسائية، وتشمل نشاطات في الدعم النفسي الاجتماعي.

لكن ما الذي يميز التعليم الشعبي عن التعليم "غير الرسمي" الذي ستقوده الأونروا والمنظمات الدولية المانحة؟ ولا بد من الوقوف على كلمة "شعبي" في هذا الحراك التعليمي، إذ شوهه الاستعمار أيضاً، وزاوج بينه وبين التعليم "غير الرسمي" أو "اللامنهجي" ومن منظور تربوي بحت؛ فالتعليم الشعبي في السياق الاستعماري متجذر لمصلحة الشعوب المحتلة ونضالاتها الحقيقية، فهو فعل سياسي علني منتقد للوضع الراهن المتمثل في الهيمنة الاستعمارية والإبادة المعرفية، وملتزم التغيير الاجتماعي والسياسي، ومناهض لحالة عدم المساواة في التعليم والاستغلال والقمع الممارَس من جانب السلطة القائمة (Crowther, Martin & Shaw, 1999).[7]  ويحلل الحراق (2021)[8]  مصطلح "الشعبي" بأنه يحمل صفة "الكيان"، أي التنظيم الذي يحوي كل الطبقات المشكِّلة لبنية المجتمع على اختلاف تمايزاتها وتصنيفاتها، مضيفاً أن ما هو "شعبي" مرتبط بأي فعل أو نشاط أو إنتاج يستمد هويته من ثقافة العمق المجتمعي وهمومه المشتركة. ويقول الحراق إن هذا التعريف يزيل التشويه الرأسمالي لما هو شعبي بأنه أقل رتبة من ذلك التعليم الرسمي، تماماً كما يضفي على أي شيء له صفة شعبية الدونية الطبقية.

كما يتجاوز التعليم الشعبي "التحرري"[9]  الحدود التقليدية للتعليم المجتمعي بمفهومه الضيق من مستوى تمكين الناس ومساعدتهم في الاستجابة إلى حاجات معينة، وتشجيعهم على المشاركة في نشاطات، ومساعدتهم في الشعور بالمسؤولية، إلى مستوى المساءلة والنقاش العميق في التشديد على حقوق المستضعَفين، وتعميق الهوية الثقافية والتاريخية لمن يخضعون للاستعمار، في اتجاه فعل مقاوم لمظاهر القمع الاستبدادي، ومساعدة الناس في اتخاذ الإجراءات، والسعي بنشاط لتحقيق رؤى بديلة للمستقبل (Flowers, 2004).[10]  أصبح من الضروري الآن المحافظة على مبادرات التعليم الشعبي القائمة في غزة كمراكز حاضنة وحامية للقضية والهوية، وأصبح من الضروري دعم هذه المبادرات التي تجري في مساحات النزوح، ورعايتها وتوجيهها وعدم تحولها شيئاً فشيئاً إلى نوع من التعليم غير الرسمي، الذي تعتبره المؤسسات الرسمية "أقل رتبة" من التعليم النظامي. كما أن ضرورة المحافظة على هذه المبادرات تأتي في ظل الوعي التام بأن إسرائيل ستستمر في حرب "الإبادة المعرفية" بطرق متعددة حتى بعد انتهاء الحرب، وستتمثل أساليبها في الضغط على الدول المانحة للسلطة والأونروا بتحييد التعليم وتجريده من مضامين الهوية والصمود والمقاومة، تماماً كتلك الضغوط التي مارستها إسرائيل على السلطة الوطنية الفلسطينية والكتب الدراسية التي طورتها عقب اتفاق أوسلو، بحجة التحريض على وجود كيانها (انظر تقارير معهد مراقبة أثر السلام "CMIP" [11] ولاحقاً ما يُعرف بـ Impact-se).[12]  ومؤخراً، أثرت هذه التقارير في علاقة السلطة بالاتحاد الأوروبي، الممول الأكبر للتعليم وتطوير الكتب الدراسية في فلسطين، إذ قامت هي أيضاً بإجراء بحث معمق لها،[13]  وتوصلت إلى قرار أعلنت فيه تعزيز تعاونها مع السلطة الفلسطينية لضمان إجراء عملية إصلاح شاملة في نظام التعليم بالتركيز على الكتب الدراسية وتحييدها سياساً.[14]  ولم تسلم وكالة الغوث الدولية – الأونروا من هذه الملاحقات، إذ نشر مركز "Impact-se"[15]  تقريراً يتهم الوكالة بالتحريض، ونزع الشرعية عن إسرائيل، وهو ما اضطر الوكالة إلى اتخاذ إجراءات رقابة صارمة على من يدرّس داخل مدارسها في مخيمات اللجوء. أمّا في القدس المحتلة، ولأن التعليم خاضع لسيطرتها، فقد اتخذت سلطات الاحتلال إجراءات فعلية نحو "أسرلة" المناهج الفلسطينية التي تعلّم في المدارس الخاصة والتابعة للأوقاف، تمثلت في الطمس والاستبدال والتحريف وتغيير المتن والصور المتعلقة بالتاريخ والثقافة وكل ما هو مرتبط بالهوية الفلسطينية (قدح، 2024).[16] 

ومن المتوقع أن تزداد عملية التحييد والسيطرة المعرفية والتغريب كممارسة "إبادة معرفية" بعد الحرب. ومن هنا، فإن علينا العمل مع مبادرات التعليم الشعبي من أجل المحافظة على هويتها، وعدم تحولها إلى تعليم مفرغ من روحه وأهدافه، وإلى ما يشبه التعليم غير الرسمي. يجب أن تقام المدارس وتجمعات التعليم الرسمي وغير الرسمي، فنحن في أمسّ الحاجة إليها، لكن يجب أن تبقى مبادرات التعليم الشعبي حامية وحاضنة لكل ما "لن يكون" في التعليم الرسمي أو حتى "غير الرسمي"، وكل ما يُتوقع أن يُسلب من مناهجنا كفلسطينيين. ولكي تنجح حركات التعلم الشعبي في فلسطين، فإنه على النظام الرسمي التعليمي أن يدرك أهميتها، ويسارع في دعمها واستدخال خبراتها ضمن برامجه.

وعلى المؤسسات المهتمة بالتعليم أن تركز على ما يحد من تجربة فريدة في سياق التعليم الشعبي في غزة، وتعمل على دعمها بكل الطرق، فهي تواجه الآن تحديات جمة، يمكن أن تؤثر في استمراريتها في المستقبل. ويتحدث المبادرون عن صعوبات مادية لوجستية جمة، تتلخص في التكلفة العالية لمستلزمات توفر مكاناً آمناً للمبادرات، وسط ازدحام الخيم في رقعة جغرافية صغيرة زعم الاحتلال أنها آمنة، وما زالت تصغر شيئاً فشيئاً. فمن الصعب توفر الشوادر البلاستيكية التي يفضلها المبادرون لتغطية مساحة آمنة معينة بدلاً من القماش (الذي يرفع من درجة الحرارة بصورة لا تطاق)، فهي بحسب المبادرين أقل تكلفة على الرغم من شحها، وتوفر الظل، ونوعاً من الخصوصية كموقع تعليمي. كما يتحدث المبادرون عن الغلاء الفاحش للقرطاسية الأساسية التي يحتاج إليها الأطفال من دفاتر وأقلام وألوان، وبعض الألعاب البسيطة. وإن توفر للمبادرين بعض الدعم المادي من المؤسسات والأفراد، فإنه يصعب صرفها للعملات المحلية لعدم توفر السيولة، ناهيك بصرف الدولار العالي، والعمولة الإضافية العالية التي يحصل عليها الصرافون، تصل إلى معدل 20%.

كما أن على المبادرين الناشطين أنفسهم أن يحافظوا على هوية التعليم الشعبي وخصوصيته، ضمن مراكز شعبية مواقعية، ويكونوا على وعي بالأسس والركائز التي يقوم عليها هذا النوع من التعليم، وأن يضعوا شروطهم في مقابل تلك المساعدات التي يحصلون عليها لتبقى حرة، مبنية على رؤى وأهداف واضحة تحكمها علاقة التطوع والتشاركية والمجاورة والعونة والحكمة في اتخاذ القرارات تجاه تعليم الأطفال. وفي هذا الشأن، يمكن للمبادرات الشعبية في غزة أن تستفيد من بعض الخبرات المحلية[17]  التي بناها الفلسطينيون في إبان الانتفاضة الأولى، آخذين بعين الاعتبار النقاط التالية:

1-   تمتين الهوية الفلسطينية: أن يعمل المبادرون في مراكز التعليم الشعبي معاً وفيما بينهم على تمتين الهوية الفلسطينية عبر سردية وطنية واضحة وجمعية تستند إلى التاريخ والثقافة (عودة الله، 2018).[18]  فعن طريق التعليم الشعبي، يمكن تغيير الصورة التي عززتها الكتب الدراسية عن اللاجئين والأسرى كما لو كانوا ضحايا عاجزين، ينتظرون العودة أو التحرير، والشهداء كأنهم عوقبوا لأفعالهم من دون ذكر نضالاتهم اليومية (الشرباتي، 2024)،[19]  وتعزيز مفاهيم الدولة على حساب الوطن (الشيخ، 2013).[20]  فمن أهم أدوار التعليم الشعبي تغيير هذه السردية وتمتين الهوية المستمدة من التاريخ ووحدة المصير، واستحضار القصص البطولية للشهداء والأسرى واللاجئين، وإزالة صورة العجز الموجودة في المناهج.

2-  محتوى بيداغوجي للسردية الوطنية: أن يهتم المبادرون في مراكز التعلم الشعبي ببناء محتوى بيداغوجي لهذه السردية كي لا تبقى على حالها كعناوين مجردة منفصلة عن الواقع (عودة الله، 2018).[21]  وهنا يُفتح المجال لما أغلقه التعليم الرسمي برواية القصص الشعبية وحضور الأفلام الثقافية والموسيقى ومحاولة ربط خبرات تعلمية حياتية - القراءة والحساب والعلوم واللغات عن طريقها - فمن الواضح أن المؤسسة الرسمية على مر العصور فشلت في تحقيق المعنى الحقيقي لتكاملية المعرفة عبر سياقات تعلم تحررية. وهذا في الوقت الحاضر في غزة، لكن هذا ينطبق أيضاً على التعليم الشعبي مستقبلاً، مع ضرورة تكثيف الرحلات الميدانية إلى الأماكن التاريخية والثقافية والتراثية، ومؤسسات المجتمع المدني، والجمعيات، والمتاحف، وغيرها من الأماكن والنشاطات التي تعزز الهوية الثقافية التاريخية المشتركة للشعب الفلسطيني أينما يكونون.

3-  يقوم التعليم الشعبي على الاعتقاد بأن جميع الناس يملكون معرفة مهمة تنشأ من تجاربهم الخاصة، وأن التعليم يجب أن يتكون من حوار بين هذه المجموعات المتعددة من المعارف، وهنا يمكن أن نفهم دور الأهل والأقرباء (كما تحدّث عنها المبادرون في قصصهم) ودور المزارع والطبيب والخباز والحرفي في التعليم الشعبي، إذ ينقلون خبرتهم إلى الأطفال في غزة ويعملون مع المعلمين والناشطين في استراتيجيات تحول المعرفة إلى خبرة معاشة. وهذا ما يحدث حالياً في مراكز التعلم الشعبي في غزة، ونسمع عن مبادرين صيادلة، وأطباء، ومهندسين، وحرفيين في صقل معرفة الأطفال في خيام النزوح بخبرات عملية متصلة بالواقع والحاجة الآنية إلى الصمود.

4-  ولا بد في تلك المراكز من التركيز على العمل الجماعي المشترك، وأن يتخلوا عن التنافسية الفردية التي عززتها مناهجنا ونظامنا التعليمي الرسمي، والمتمثلة في ثقافة المسابقات والجوائز. ويجب على المبادرين أن يركزوا عملهم الجماعي نحو فكر تحرري نقدي يسائل ما يحدث في التعليم الرسمي من انقياد إلى منهجيات كولونيالية استعمارية ومفاهيم واستراتيجيات تعلم مفرغة من مضمونها السياسي التحريري طالما نحن ما زلنا تحت احتلال.

5-  كون المبادرات في غزة مرتكزة بصورة أساسية على المعلمين، فمن الأهمية في المكان إدراج ناشطين مجتمعيين معهم في بناء آليات عمل مشتركة للنهوض بالتعليم التحرري، ومن هنا، يمكن أن يستعيد المعلم دوره التاريخي كناشط مجتمعي خارج إطار غرفة الصف، يساهم في التجربة النضالية.

6-  في ضوء تكثيف برامج الدعم النفسي في معسكرات النزوح بصورة عامة ومراكز التعليم الشعبي، فإنه من الأهمية في المكان إعادة بناء هذه البرامج لترتبط بالسياق الفلسطيني تحت الاحتلال. وفي هذا الإطار، يدعو علماء النفس من المنظور التحرري لمارتن بارو[22]  وتلك التجارب المحلية[23]  إلى ربط التعافي بالمشروع السياسي التحرري والوعي الجمعي، وذلك عبر إشراك الناس في تغيير واقعهم عبر الحوار والوعي بمسببات الصدمات وآليات القمع الاستعماري التي تنتجها، وتعزيز الذات وتمكينها ضمن الجماعة لممارسات الفعل والتغيير، وتشجيعهم على القيام بأدوار مناهضة للقمع السياسي والاجتماعي، كي يكونوا فاعلين ناشطين ووكلاء للتغيير.

 

[1]Abdullah Moaswes, “The epistemicide of the Palestinians: Israel destroys pillars of knowledge”, “Blog Series: Genocide in Gaza”, Institute for Palestine Studies, 2/2/2024.

[2] يحيى اليعقوبي، "'التعليم الشعبي‘... هكذا أفشل الفلسطينيون محاولات تجهيل جيل الانتفاضة"، "فلسطين أون لاين"، 8/12/2021.

[3]Yamila Hussein, “The stone and the pen: Palestinian education during the 1987 intifada”, The Radical Teacher, no.74, Teaching In A Time of War, Part 2 (Fall 2005), pp. 17-22.

[4] أُجريت هذه المقابلات مع بدايات نزوح أهالي غزة إلى رفح عندما اعتُبرت منطقة آمنة في أوائل العام الحالي، حيث كانت جزءاً من تدخُّل مؤسسة عبد القطان لإسناد هذه المبادرات بطرق متعددة مع الإبقاء على هويتها كمبادرات فردية.

[5] وردت هذه القصص والتحديات ضمن تأملات المبادرين خلال لقاءاتهم الجماعية في منتدى معلمي القطان – غزة، والمنتدى هو إحدى مبادرات مؤسسة القطان عبد المحسن القطان التي تشكلت سنة 2017، وعاود أعضاؤها المكونون من معلمين وتربويين التجمع وعقد لقاءات وورشات عمل مع المعلمين والناشطين في مراكز إيوائهم بهدف إسنادهم ودعمهم معرفياً ولوجستياً.

[6] بيان رقم ن/د/2024، وكالة الغوث الدولية، 21/7/2024

[7] Jim Crowther, Ian Martin & Mai Shaw, Popular Education and Social Movements in Scotland Today, (England: NIACE), 1/1/1999, p. 4.

[8] محمد الحراق،  "الشعبي والشعبوي"، "هسبريس كتاب وآراء"، 11/2/2021.

[9] باولو فرایری، "تعلیم المقهورین" ترجمة یوسف نور عوض، (بیروت: دار القلم).

[10] R. Flowers, Defining popular education (North Rhine‐Westphalia, Germany: University of Duisburg‐Essen, 2004) Retrieved 1/8/2018.

[11]Center of Monitoring the Impact of Peace”, “Power Base”.

[12]Palestinian Authority Ministry of Education Study Cards 2021-22 Grades 1-11, Selected Examples”, Impact-se, (January 2022).

 [13] “EU-funded study of Palestinian textbooks: tempering allegations while feeding a one-sided narrative”, Eu Mep, (July 2021).

[14]  “Reform of palestinien textbooks”, European Parlement, 15/2/2022.

[15]UNRWA Education: Textbooks and Terror”, IMPACT-se, (Nov. 2023).

[16] أنور قدح، "ورقة علمية: أسرلة المناهج في القدس .. 'تحدِ وجوديّ‘"، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

[17] كما يمكن للمبادرين أن يستفيدوا من تجربة دول أميركا اللاتينية على المستوى النظري والبيداغوجي كما لخصها Kane (2010):

Liam Kane, “Community development: Learning from popular education in Latin America”, Community Development Journal, Vol.45, no.3, (Oxford: Oxford University Press, July 2010), pp. 276-286.

[18] خالد عودة الله، "التعليم الشعبي في مواجهة أسرلة التعليم"، "بودكاست فلسطين"، 12/2/2018.

[19] أسماء شرباتي، "تمثُّلات الهُوية الفلسطينية في الكُتب المدرسيَّة الفلسطينيَّة واستراتيجيَّات الاحتواء والإِقصاء"، دراسة غير منشورة استكمالاً لمتطلبات درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من كلية الدراسات العليا في جامعة بيرزيت، فلسطين، (2024).

[20] عبد الرحيم الشيخ، "الهوية الثقافية الفلسطينية.. ʾالمثالʿ وʾالتمثيلʿ وʾالتماثلʿ"، في: "التجمعات الفلسطينية وتمثلاتها ومستقبل القضية الفلسطينية" (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات، 2013)، ص 69-143.

[21] عودة الله، مصدر سبق ذكره.

[22]Hanna K. Heitz, “Liberation Psychology: Drawing on history to work toward resistance and collective healing in the United States”, Psychology from the Margins, Vol.4, (2022).

[23] David J. Marshall & Cindi Sousa, “Decolonizing trauma: Liberation psychology and childhood trauma in Palestine”, Conflict, Violence and Peace, Vol.11, (Berlin: Springer, 7/3/2017), p. 287.

Author Bio

نادر وهبة: مدير وحدة التكون التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطان، وباحث في مجال تعليم العلوم وبيداغوجيا التعليم التكاملي والتحرري.