تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
من فضاءات للتعلم إلى مساحات مستباحة: الحرب والتعليم المدرسي في قطاع غزة
المؤلف
خلود ناصر
سنة النشر
اللغة
Arabic
عدد الصفحات
14

مقدمة

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، سُلِب ما كان قد تبقى من مقومات الحياة في غزة بعد سبعة عشر عاماً من الحصار الخانق المتواصل. ففي حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، أصبح الوقت معلقاً في تكرار يومي لمأساة لا يزال يلف مسارها الغموض، واقتصرت الحياة فيها على محاولات مستمرة للنجاة وصراع يومي من أجل البقاء، ربما توفره شربة ماء أو كسرة خبز أو رباطة جرح. وفي ظل التدمير الشرس غير المسبوق للأعيان المدنية الخاصة والعامة، وتوقف مناحي الحياة كافة بفعل الهجمات الكثيفة والمتواصلة لجيش الاحتلال الصهيوني براً وبحراً وجواً، تضعنا غزة أمام مجموعة كبيرة من التحديات والأسئلة الصعبة، منها سؤال التعليم، الذي أدت الحرب إلى توقفه بشكل كامل، الأمر الذي سيترك آثاراً طويلة المدى قد يصعب تداركها.

السياق العام

يتجاوز التعليم العام بمعناه الشمولي الأبعاد المرتبطة بتلقي المعارف والمهارات، ليهتم بجميع أبعاد حياة المتعلم العقلية والجسدية والنفسية والثقافية والاجتماعية، من خلال عملية تكاملية وثيقة الصلة بالمجتمع والبيئة. وتشمل مراحل الدراسة في التعليم العام مرحلتي رياض الأطفال، وهي مرحلة غير إلزامية مدتها سنتين، ومرحلة التعليم المدرسي ومدتها 12 سنة، 10 منها إلزامية. يتعرض التعليم العام أو المدرسي في فلسطين للتدمير المنهجي المستمر من قبل دولة الاحتلال، وهو ما وصفته مجلة "الغارديان" "بإبادة المدارس" scholasticide)) في تقرير لها صدر عام 2009 بعنوان "في غزة، المدارس تموت أيضاً" (Ahmad and Vulliamy, 2009)، الأمر الذي يبدو اليوم أكثر وضوحاً وأشد خطورة من أي وقت مضى.

يأتي هذا التدمير للتربية والتعليم والتعلم، باعتبارها من مرتكزات الهوية والوجود الفلسطينيين، في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. فلم يكن التعليم يوماً بمنأى عن استراتيجياتها الاستعمارية الاستيطانية الهادفة إلى محو الفلسطينيين وروايتهم وتاريخهم، وإخضاع من يبقى منهم، وتحويلهم إلى رعايا في الدولة الاستعمارية، لتتمكن من استكمال مشروعها في السيطرة على الأرض ونزع الصفة الاستعمارية عنه وتطبيعه. يصف سانتوس (2014) محاولات تدمير معرفة وثقافة الشعوب المضطهدة والمستعمرة "بالإبادة المعرفية" (epistemicide)، التي كانت أحد شروط عمليات "الإبادة الجماعية" (genocide) في المشاريع الاستعمارية الكبرى (Boaventura de Sousa, 2014). لذلك، وعلى مر الأجيال التي تعاقبت منذ نكبة عام 1948، انتهجت إسرائيل مختلف وسائل التدمير والتعطيل والشرذمة في استهدافها لقطاع التعليم بمكوناته كافة.

ومنذ عام 2006، تعرض قطاع غزة لحصار خانق، وواجه حروباً متتالية كان لها تداعياتها الكارثية على كل القطاعات، بما يشمل قطاع التعليم، الأمر الذي بينته العديد من التقارير الصادرة عن مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، إذ تم توثيق قتل 333 طفلاً في عام 2009، و36 طفلاً في عام 2012، و551 طفلاً في عام 2014، ثم 61 طفلاً في عام 2021 (ESCWA, 2023). كما أدى القصف الإسرائيلي في عام 2014 إلى تضرر 244 مدرسة (Hagopian, 2023)، وفي عام 2021 إلى تضرر 54 مدرسة (حسين، 2024). وتركت هذه الحروب آثاراً كبيرة على الصحة النفسية للأطفال، إذ أشار تقرير نشرته منظمة إنقاذ الطفولة في عام 2022 إلى أن 80% من أطفال غزة يعانون من حالة دائمة من الخوف والقلق والحزن (Hagopian, 2023). كما واجه نظام التعليم عدة تحديات، من أبرزها اكتظاظ الصفوف، وعمل العديد من المدارس بنظام الفترتين، وبرزت إشكالية ضعف البنية التحتية ونقص الأجهزة بوضوح خلال جائحة كورونا، وأدت إلى حرمان أعداد من الطلبة من الانخراط في نظام التعلم عن بعد (حسين، 2024).

 

 

واقع التعليم أثناء حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 المستمرة على غزة

على الرغم من أن غزة عانت من حروب سابقة مدمرة، فإن كثافة القتل والتدمير في حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 غير مسبوقة. وقد صنفت مجموعة بيانات مواقعِ النزاع المسلح وأحداثه (ACLED) هذه الحرب ضمن المراكز الثلاثة الأولى من حيث مستوى أعمال العنف، ومستوى الخطر على المدنيين، ومدى انتشاره (ACLED, 2024). واعتبرتها الإسكوا، في تقرير أصدرته بعد مئة يوم، الحرب الأعنف في القرن الواحد والعشرين، إذ لم يشهد أي نزاع مسلح آخر تأثيراً مدمراً على السكان ضمن هذا الإطار الزمني (ESCWA, 2024). ويعد استهداف الأطفال من أبرز مظاهر وحشية هذه الحرب، إذ اعتبرت الأمم المتحدة، بحسب تعبير أمينها العام، أن غزة أصبحت "مقبرة للأطفال" (UNICEF, 2023). ويشكل الأطفال 47.3% من سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.3 مليون، يُقتَل واحد منهم كل 10 دقائق (Hagopian, 2023).

 

رسم توضيحي رقم 2: المصدر (الإسكوا، 2024) 

 

تزامنت الحرب على غزة مع بدايات العام الدراسي 2023/2024 الذي تعطل بشكل تام، ولا يزال مصيره مجهولاً. وفي إثر ذلك، فقد أكثر من 620,000 طالب وطالبة إمكان الوصول إلى التعليم (وزارة التربية والتعليم، 2024). وبعد أكثر من أربعة أشهر على الحرب، فقد الطلبة الفصل الدراسي الأول أي نصف العام الدراسي، ولا تزال الحرب مستمرة. وفي الضفة الغربية والقدس، وفي أعقاب الحرب على غزة، تأثر ما لا يقل عن 782,000 طالب بالقيود المفروضة على الحركة وعنف المستوطنين والقوات الإسرائيلية (UNRWA, 2024)، واستشهد 46 طالباً، وأصيب 294 طالباً بجراح مختلفة (وزارة التربية والتعليم، 2024). وكان عام 2023 العام الأكثر دموية في الضفة الغربية منذ عام 2005 (UNRWA, 2024).

يقول عبد الرحيم الشيخ في وصفه لإبادة الأطفال في غزة: "الأطفال الفلسطينيون يكتبون أسماءهم بالحبر الساخن على أطرافهم في حروب الإبادة ليسهل التعرف عليهم بعد الانفجار وجمع أشلائهم للدفن" (الشيخ، 2023). ما يحدث للأطفال والطلاب في غزة يمثل تناقضاً صارخاً مع ما أرسته المؤسسات والمنظمات العالمية والدولية من أسس وبرامج (تتبناها وتشارك فيها فلسطين) تحت عناوين "المدارس الآمنة" (SSD)،[1] و"المدارس الصديقة للطفل"،(CFS) [2] و"التعليم لا ينتظر" (ECW)،[3] و"التعليم في الطوارئ"(EiE)،[4] و"التعليم للجميع" (EFA).[5] وفي هذا السياق، يقول جيسون لي، مدير منظمة إنقاذ الطفولة: "لقد فشل جزء كبير من المجتمع الدولي في اختبارات التزامهم بحماية الأطفال حتى الآن، وهو الاختبار الأصعب على الإطلاق. هل سيحترمون القانون الدولي وحق الأطفال في الحياة؟ أم أنهم سيقفون مكتوفي الأيدي بينما يتم تدمير حياة وأجساد ومستقبل المزيد من الأطفال؟" (Save the Children, 2024).

ففي الوقت الذي هزت مأساة غزة ضمائر الشعوب التي رفعت صوتها قائلة "أوقفوا الحرب"، لم تتحمل الدول الموقعة على مختلف المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تجرم استهداف الأطفال، وتؤكد ضرورة الالتزام بحمايتهم وحماية حقهم في التعليم في كل الظروف، مسؤولياتها القانونية والأخلاقية والإنسانية. فأمعن الاحتلال في تحدي هذه المواثيق وانتهاكها، واستمر في جرائمه بحق الأطفال، ويعلن الآن عن مخطط لمهاجمة رفح التي نزح إليها معظم السكان (1.4 مليون)، نصفهم من الأطفال، يعيشون في مساحة لا تتجاوز 62 كيلومتراً مربعاً، أي أقل من خُمس مساحة أراضي غزة البالغة 365 كيلومتراً مربعاً (Save the Children, 2014).

آثار الحرب على التعليم العام/المدرسي

ستترك الحرب آثاراً طويلة المدى على العملية التعليمية في غزة سيعاني منها النظام التعليمي لسنوات قادمة، أهمها تلك المرتبطة بالخسائر البشرية، سواء ما يتعلق منها بالطلبة أو بالطواقم التعليمية والإدارية. لم تحرم الحرب الطلبة حقهم في التعليم فحسب، بل حرمتهم أيضاً من كل حقوقهم، وأولها حقهم في الحياة. فقد استُشهد 5055 طالباً وطالبة، و246 معلماً ومعلمة حتى تاريخ 13/2/2014 (وزارة التربية والتعليم، 2024). أمّا المفقودين تحت ركام المباني المدمرة فلا إحصاءات دقيقة بشأنهم.

وخلال الفترة نفسها، بلغ عدد الجرحى 8497 طالباً وطالبة، و836 معلماً ومعلمة، منهم من تشوه، ومنهم من فقد بعضاً من جسده وأصيب بنوع من أنواع الإعاقة. وبحسب بيان لمؤسسة إنقاذ الطفولة نشر في 7/1/2024، فإن أكثر من 10 أطفال في المتوسط يفقدون إحدى ساقيهم أو كلتيهما كل يوم منذ بدء الحرب، وتتم العديد من عمليات البتر من دون تخدير (Al-Jazeera, 2024). وكانت نسبة الإعاقة في غزة قبل هذه الحرب حوالي 7%، يعود الارتفاع فيها بشكل أساسي إلى حروب الاحتلال المتعاقبة وسياسته المتمثلة في القتل والتشويه (Al Masri, 2021). وبعد الحرب، سترتفع نسب الإعاقة بشكل كبير بسبب العدد المتزايد من الجرحى، وخصوصاً بين الأطفال، وانخفاض إمكان الرعاية الطبية.

ولم يتعرض الأطفال للقتل والتشويه فحسب، بل تعرضوا أيضاً للاعتقال، إذ تم احتجاز عدد غير معروف من المدنيين الفلسطينيين، وبينهم أطفال (Save the Children, 2024). وفي غزة، التي تقاس أعمار الطلبة فيها بعدد الحروب التي تحملها ذاكرتهم، وبما يلازمها من شعور بالقهر والفقدان، أضافت الحرب الجارية المزيد إلى هذه الذاكرة المثقلة بالألم؛ فتعرض الآلاف من الطلبة لصدمة فقدان فرد أو أكثر من عائلاتهم، كما يعاني الطلبة من التهجير والنزوح المتكرر وانعدام الأمان والفقر وسوء التغذية (UNRWA, 2024). وألحقت الحرب أضراراً بالغة أيضاً بصحة الطلبة النفسية، الذين يصعب عليهم احتمال هذا الكم من الخوف والذعر. وتبين الصور والمشاهد المنتشرة على وسائل الإعلام والتواصل لتعبيرات الوجوه والأجساد المستويات العالية من الصدمة والألم الذي يسكن أرواح الأطفال الذين تعرضوا لاستهداف مباشر أو غير مباشر. وتشير العديد من الدراسات إلى الترابط الوثيق بين الصحة النفسية للطفل وقدرته على التعلم والتركيز والانتباه (NRC, 2021).

ونظراً إلى أن مؤشرات التحصيل والأداء تميل إلى التغير ببطء، فمن الآثار الطويلة المدى التي قد يتسبب بها الانقطاع المتواصل عن التعليم الفاقد التعليمي (ESCWA, 2023)، إذ تشير الدراسات إلى أن إغلاق المدارس قد يؤدي إلى فقدان التعلم وانخفاض مستوياته لدى الطلبة (Patrinos, 2022)، كما قد يؤدي أيضاً إلى ارتفاع نسب التسرب من المدارس. وكلما طال إغلاق المدارس، زاد الفاقد التعليمي، وارتفعت احتمالات تسرب الطلبة، وزادت المشكلة تعقيداً، وخصوصاً فيما يتعلق بطلبة الثانوية العامة الذين لم يلتحقوا بالدراسة سوى شهر واحد أو أقل.

أمّا على صعيد البنية التحتية، فلم تعد معظم المدارس صالحة لممارسة الحياة التعليمية والتحاق الطلبة بها نتيجة القصف والتدمير، إذ تم قصف وتخريب 286 مدرسة حكومية و65 مدرسة وكالة، بما فيها من أثاث وسجلات، بينما يتم استخدام 133 مدرسة حكومية كمراكز للإيواء (وزارة التربية والتعليم، 2024). وتحولت المقاعد والمعدات الخشبية إلى وقود لإشعال النار يستخدمها النازحون للطهي والتدفئة في ظل حرمانهم من الوقود. لقد فقدت المدارس وظائفها الحيوية باعتبارها أماكن آمنة للتعلم واللعب والتعبير والتواصل والمشاركة، وتحولت صورها في مخيال الطلبة إلى ثكنات عسكرية، وساحات للقتال، ومقابر لأهلهم وزملائهم، ومراكز للاحتجاز، ومعسكرات للتحقيق، ومراكز مكتظة للإيواء. هذا التحول الصادم في مشهد المدرسة والحياة المدرسية في مخيلة الطلبة، سيترك آثاراً طويلة المدى على شخصياتهم بأبعادها المختلفة.

وفي خضم هذه الحرب، يواجه قطاع التعليم إشكالية كبرى تتمثل في الهجمة على وكالة الغوث، والتي تطورت بعد الادعاءات بمشاركة 12 من موظفيها في هجوم السابع من أكتوبر، وفي إثر ذلك، قامت الولايات المتحدة الأميركية بتجميد تمويلها للوكالة وتبعتها عدة دول. وليست هذه المرة الأولى التي تواجه الوكالة فيها خطر التجميد والإغلاق، فقد تم تقليص التمويل عدة مرات سابقة، أبرزها عام 2018، ما دفعها إلى اعتماد سياسات تقشفية، وأدى إلى تعطيل العملية التعليمية. وترتبط محاولات إعاقة عمل الوكالة ووقف تمويلها بدورها الذي ارتبط بحفظ حق عودة لاجئي النكبة، وفي حالة إنهاء هذا الدور تكون إسرائيل قد تخلصت من عبء وتهديد قضية اللاجئين، وأحالتها إلى الدول المضيفة لتوطينهم فيها. مع العلم بأن الوكالة تقدم خدمات الإغاثة والتشغيل، والتعليم الأساسي والمهني، والرعاية الصحية الأولية، وشبكة الأمان الاجتماعي، وتحسين البنية التحتية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس والأردن ولبنان وسورية، ويحصل على خدماتها نحو ستة ملايين لاجئ في 58 مخيماً، يوجد منهم نحو 1.5 مليون في قطاع غزة. ويتلقى التعليم في مدارس الوكالة في غزة حوالي 300 ألف طالب وطالبة، أي ما يعادل نصف عدد طلاب غزة (Save the Children, 2024).

إن معالجة آثار الحرب على قطاع التعليم بصورة خاصة، وعلى المجتمع بقطاعاته كافة بصورة عامة، ستتطلب جهوداً كبيرة وموازنات باهظة. وفي هذا الشأن، نشرت الإسكوا في 5/11/2023، أي بعد أقل من شهر على بدء الحرب، تقريراً لتقييم تأثيرات الحرب على مؤشرات التنمية (HDI) باستخدام أسلوب المحاكاة مفترضة عدة سيناريوهات. وبالنظر إلى وتيرة الحرب، يبدو أن الواقع بعد ثلاثة أشهر من إعداد التقرير يتجاوز السيناريو الأسوأ الذي تم افتراضه، والذي يتوقع انخفاض متوسط العمر المتوقع لمدة خمس سنوات، وانخفاض سنوات الدراسة المتوقعة لمدة عام واحد، وانخفاض بمقدار 0.5 سنة في متوسط سنوات الدراسة، وانخفاض بنسبة 20% في نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي، ما يعني انخفاض مؤشر التنمية إلى 0.656، وهو مستوى عام 2004 (ESCWA, 2023).

توصيات بشأن العودة إلى التعليم واستئناف الدراسة

للحديث عن عودة آمنة للتعليم، لا بد أولاً من أن تتعاون الجهات الدولية الفاعلة للعمل على تحقيق الوقف الفوري لإطلاق النار كشرط أساسي لاستئناف الدراسة. كما يجب إعطاء الأولوية لجهود الإغاثة الإنسانية العاجلة وإدخال المساعدات لتوفير الحاجات الأساسية من ماء وغذاء ودواء ومأوى. فالتعليم ليس نوعاً من الرفاهية، وإنما هو حق أساسي للجميع، لكن لا يمكن توفيره لطفل بلا مأوى، ومهدد بالقتل، ويعاني الجوع والعطش والبرد.

وقبل التطرق إلى التدخلات الضرورية لاستعادة عملية التعليم، تجدر الإشارة إلى المبادرات المحدودة والمهمة في الوقت ذاته، والتي يقوم بها بعض أفراد المجتمع في غزة؛ ففي خضم هذه الحرب المستمرة والشديدة القسوة، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المدونات العديد من القصص عن مبادرات طوعية يقوم من خلالها المعلمون والناشطون بتنفيذ نشاطات تعليمية ونشاطات الدعم النفسي والاجتماعي في مراكز الإيواء. ففي غزة، يرفض الفلسطينيون أن يكونوا ضحايا سلبيين على الرغم من أنهم قُتلوا وشُوِّهوا، وهُجِّروا (الشيخ، 2023)، ويقومون بأدوار تتجاوز بيروقراطية تخطيط وتحضير الدروس المتعارف عليها في النظام المدرسي، إلى خلق مساحات من الأمل تعين الأطفال الاستمرار والبقاء، إذ يوظفون، طوعاً، ما يتيسر لهم من موارد محدودة في تحويل مشاعر القهر والألم إلى فعل صمود وصوت مسموع. كما تمكنت بعض المؤسسات من المساهمة في تنفيذ نشاطات مماثلة للطلبة النازحين وذويهم، وخصوصاً في المحافظات الجنوبية.

تقول إحدى المعلمات: "بعد أن استقرت إقامتي في غرفة المكتبة المدرسية، أسعدني كثيراً توفّر مئات القصص القصيرة للأطفال، فخصّصتُ جزءاً من وقتي اليومي للأطفال النازحين في هذه المدرسة، تعويضاً لهم عمّا فاتهم داخل المنشآت التعليمية، ولو بشيء بسيط، وتعليمهم ما ينفعهم قدر المستطاع، نظراً إلى توقّف التعليم في قطاع غزة بشكل كامل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وجدتها فرصة لملء فراغ الوقت العصيب الذي يعجّ بأصوات القصف الجوي والمدفعي من حولنا، وصوت أخبار موت ودمار وشهداء وجرحى ومفقودين، وصراخ الأمهات والأطفال يبكون بحرقة. حاولتُ أن أُخرِج الطفل بعيداً عن الخوف والرعب والقصف والدمار والأخبار والفقد الموجع والآلام التي لا تنتهي، بغرض التخفيف عنه قدر المستطاع، ولو لوقت قصير من كل يوم. أردت أن أُبقي عَمَل عقل الطفل متّصلاً مع مهارات التفكير، من وعي وإدراك وفهم وتطبيق وتحليل وتركيب، من خلال القصة التعليمية المصورة الهادفة، وبعض الألعاب الترفيهية البسيطة. لم أقبل التغيير الجذري فيما يتعلق بطبيعة الوضع التعليمي، ما نعيشه هنا يندرج، بكل وضوح، تحت سياسة العدو المحتل في تجهيل أبناء غزة، وإبعادهم كل البعد عن طريق العلم. وما أقوم به ليس إلاً محاولة متواضعة في رفض هذه السياسة، والإصرار على استكمال عمليات التعليم بالتربية.... عزائي أنني ألتقي كل يوم بما يزيد عن 30 طفلًا في موعد محدد، ما عدا يوم الجمعة: تجمعنا الساعة الثالثة بعد الظهر، نتفقد أحوال بعضنا البعض، أسرد القصة للأطفال، ونناقشها.... وفي كل أسبوع، أنتقل إلى أطفال آخرين في طابق مختلف." (مصطفى، 2023)

وعلى الرغم من اختلاف السياق والظروف والمعطيات بشكل كبير، فإن هذه المبادرات تعيد إلى الذاكرة بعضاً من قيم العمل التطوعي والجماعي والتكافل الاجتماعي خلال الانتفاضة الأولى، حين تم إغلاق المدارس بقرار عسكري خلال العام الدراسي 1987/1988 لمدة 120 يوماً متواصلة (مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، 2006). تبلور في تلك الحقبة شكل من أشكال التعليم غير الرسمي "الشعبي" بهدف مواصلة التعليم ورفض الواقع الذي فرضه الاحتلال، وانتشر في المدن والقرى والمخيمات من خلال لجان ساهم فيها المعلمون وطلبة الجامعات وغيرهم من فئات المجتمع التي حولت المساجد والمنازل والأندية إلى مدارس. وشكلت هذه التجربة في حينها عنواناً لصمود الشعب الفلسطيني، ونموذجاً لفاعليته وقدرته على تجديد الأساليب، والتكيف مع المتغيرات (اليعقوبي، 2021). ربما كان من الممكن استلهام قيم هذه التجربة، ولا أقول التجربة بحد ذاتها، في مجتمعنا لو لم يتم تفتيته وإضعاف بنى الفصائل الفلسطينية التي كان دورها لا يزال فاعلًا في تلك الحقبة.

أمّا فيما بتعلق بالتدخلات السياساتية والرسمية، ونظراً إلى المستوى الكبير من الأضرار التي لحقت بالطلبة والكوادر التعليمية والإدارية، والدمار الذي لحق بالمرافق التعليمية، تتطلب العودة إلى التعليم بناء وتنفيذ آليات عاجلة قصيرة المدى تحقق الوصول إلى التعليم، وأُخرى على المدى الأطول لإعادة بناء نظام تعليم فاعل، على أن يتم العمل بهذه الآليات بالتوازي. وفيما يتعلق بالتدخلات العاجلة/ الطارئة فيمكن أن تشمل:

  • توفير أماكن موقتة كالخيام أو البيوت الجاهزة لاستئناف الدراسة فيها، ويمكن تطبيق نظام الفترات إلى حين بناء/ترميم المدارس التي تعرضت للقصف.
  • تنفيذ نشاطات وبرامح للدعم والإرشاد النفسي/الاجتماعي بحيث تشمل الطلبة والمعلمين والأهالي، بالإضافة إلى دعم المبادرات المجتمعية لضمان تغطية واسعة النطاق. من المهم إشراك الطلبة وإعطاؤهم أدواراً فاعلة في هذه البرامج لتشجيع انخراطهم فيها وإقبالهم على التعلم.
  • دعم نشاطات التعليم غير الرسمية، ودعم صمود القائمين عليها من المعلمين والمعلمات لتقصير أمد الانقطاع التام عن التعليم. ومن الممكن الاستفادة من تجارب تعاونية وطوعية سابقة.
  • توفير عاجل لاحتياجات ذوي الإعاقة من الطلبة والمعلمين والعاملين، ودمجهم في نشاطات التعليم والدعم النفسي والاجتماعي.
  • تأمين مساكن للنازحين في المدارس لتأهيلها واستعادة الحياة المدرسية فيها.
  • استخدام استراتيجيات تعليمية تعلمية لمعالجة مشكلة الانقطاع عن التعليم، بما يشمل أساليب التدريس وتكييف المناهح والتركيز على المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، وخصوصاً في المراحل الأساسية الدنيا.

أمّا التدخلات المرتبطة بإعادة الإعمار، فعلى جميع الفاعلين العمل على إنهاء الحصار وتوفير التمويل اللازم لإنجازها بالسرعة الممكنة لضمان استقرار واستمرارية النظام التعليمي. فقد كانت عمليات الإعمار السابقة تسير بوتيرة بطيئة بسبب الحصار المفروض على غزة، وإذا أخذنا جهود إعادة الإعمار السابقة كمرجع، فعلى سبيل المثال، بعد عام واحد من عدوان عام 2021، تمت إعادة بناء 200 منزل فقط من أصل 1700 منزل مدمر (ESCWA, 2023). وتشمل تدخلات إعادة الإعمار تقييم مستوى الأضرار التي لحقت بنظام التعليم واحتياجاته، وبناء/تأهيل المباني المدرسية، وتوفير الكتب والمواد التعليمية والمعدات الإدارية. ومن المهم أن تشمل أيضاً تأهيل البنية التحتية اللازمة لدعم عملية التعليم عن بعد الذي قد يكون له دور حيوي في عمليتي التعليم والتعلم في هذه الظروف المعقدة.

خلاصة

إن استئناف التعليم يتطلب أولاً وقف الحرب، وعلى المجتمع الدولي الضغط من أجل ذلك، كما أن معالجة آثار الحرب على قطاع التعليم يمثل تحدياً كبيراً يجب أن تتكاتف الجهود الرسمية وغير الرسمية لمواجهته. فعملية إعادة بناء نظام التعليم الذي دُمِّر وتوقف عمله بشكل كامل يتطلب أن تقوم الدول المانحة بدعم المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والدولية العاملة في قطاع التعليم، واستئناف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين. كما يجب تكثيف العمل من قبل الوزارة وممثلي الدول والمؤسسات والمنظمات الأممية والدولية في مجموعة عمل قطاع التعليم (ESWG) لبناء ودعم تنفيذ استراتيجيات الاستجابة العاجلة الإنسانية والتعليمية، والاستجابة طويلة المدى بالتنسيق مع القطاعات الأُخرى ذات العلاقة، لضمان تكامل الجهود. ولا بد من تكثيف العمل من قبل المؤسسات الوطنية والدولية والأممية لمراقبة ورصد وتوثيق الانتهاكات بحق العملية التعليمية، واتخاذ إجراءات جدية لتنفيذ حملات الضغط والمناصرة لتوفير الحماية للتعليم.

 

المراجع

 

[1] GCPEA, “The Safe Schools Declaration”.

[2] UNICEF, “Child-Friendly Schools Manual: Quality education is education that works for every child and enables all children to achieve their full potential”.

[3] https://www.educationcannotwait.org/

[4] UNESCO, “Education in emergencies data”.

[5] UNITED NATIONS, “Education For All”.

عن المؤلف

خلود ناصر: باحثة ومرشحة للدكتوراه في برنامج العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت. حاصلة على ماجستير الصحة العامة والمجتمعية وبكالوريوس الأحياء/ الطب المخبري. شغلت عدة مناصب في مجالات التعليم والصحة وإدارة المشاريع.